و لما شفيت رضي الله عنها من آثار السقط ، استأنفت الرحلة إلى أبيها عليه الصلاة و السلام ، و لما علم منها بما كان ، أمر بقتل هبار فقتل بعد ذلك .
أما ما كان من أمر الحبيبن ، فقد ظلا على البين مدة ست سنوات كاملة ، احتوى فيها الكريمة بيت النبوة و الأبوة ، و انشغل فيها الكريم بتجارته – أو تشاغل- و ما شارك في معركة ضد المسلمين بعد بدر . حتى إذا كانت السنة السادسة من الهجرة قبيل فتح مكة ، خرج أبو العاص في تجارة لقريش ائتمنوه فيها على مالهم ، لما كان له من باع في حفظ الأمانات . و لما قفل راجعا ، لاقته سرية من سرايا الرسول صلى الله عليه و سلم ، فأصابوا ما معه ، و فر هو بنفسه ، و دخل المدينة ليلا خائفا يترقب .
و مضى الصهر الكريم ، يجوب طرقات المدينة في توجس ، و عيناه تجوسان خلال الديار في لهفة ، حتى وقع بصره على غايته ، و أسرع إلى دارها يسبقه قلبه ليطرق على الباب . و تؤمنه الزوجة الوفية الكريمة ، و تجيره . حتى إذا كانت في صلاة الفجر ، و كبر الحبيب و من بعده المسلمون ، صاحت زينب من بين صفوف النساء : " أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع " .
فلما سلم الحبيب المصطفى من الصلاة ، قال : " أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت ؟ و الذي نفسي محمد بيده ما علمت بشئ من ذلك حتى سمعت ما سمعتم " . ثم أردف " " إنه يجير على المسلمين أدناهم ، و قد أجرنا من أجرت يا زينب " . ثم ذهب الأب الحنون إلى بيت الكريمة الأصيلة ، و قال لها : " أكرمي مثواه يا بنية ، و لا يخلصن لك ، فإنك لا تحلين له " .
ثم قام الأمين عليه أكرم الصلاة و أجل التسليم ، فجمع أفراد السرية ، و قال لهم في رفق القائد الذي ما برح حب أصحابه له يملك عليهم لبهم ، فإنهم ليتنسمون منه إشارة بإصبعه يتبادرونها جميعا أيهم يسبق إلى إرضائه ، قال لهم : " إن هذا الرجل منا حيث علمتم ، و قد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا و تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك ، و إن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به " . و إن كانت لتكفي أن يقول الحبيب المصطفى : إنا لنحب ذلك ، حتى يسارع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كلهم يبتدر أخاه : " بل نرده عليه يا رسول الله حبا و كرامة " ، حتى إن الرجل كان ليجيء بالدلو فيرده إليه .
و لقي بعض المسلمين أبا العاص يجهز نفسه للرحيل ، فقالوا له : " هل لك في أن تسلم و تأخذ الأموال لك ، فإنها أموال مشركين " ، فرد رد رجل ، جدير بأن يكون صهر الحبيب ، و ابن أخت الطاهرة الطيبة ، و زوج العقيلة الكريمة المحتد ، قال :
" بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي "
و يعود أبو العاص إلى مكة . حتى إذا رد الأمانات إلى أهلها ، نادى فيهم : يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي شئ ؟ قالوا : لا ، فجزاك الله خيرا ، فقد وجدناك وفيا كريما .فصدح فيهم : " فأنا أشهد ألا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و الله ما منعني من الإسلام عنده إلا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم ، و فرغت منها أسلمت " . و مضى ينهب الأرض نهبا ، و يطوي المسافات طيا إلى مليكة قلبه . و أخيرا كان اللقاء المنتظر بعد طول بين ، و ما زاد الفراق شوقيهما إلا حرارة و تأججا ، و ما زاد اللقاء قلبيهما إلا التحاما و تماسكا .
فليهنأ هذا البيت المبارك بأكرم عقيلة و أشرف صهر ما وجد إلى الهناءة سبيلا ، و ليتقلب في أعطاف الرحمة النبوية ما استطاع ، و ليتزود الحبيبان من الأنس ما لاح لهما قريبا من متناولهما ، فإن لوعة الفراق الثاني بعد بهجة اللقاء الثاني لقريبة .
عام واحد ألقى فيه اللقاء بظلال الأنس و البهجة على ذلك الشمل المبارك ، الذي التحم بعد طول تصدع . ثم عاد الفراق يحن لينسج خيوطه في جنبات الروضة الغناء ، و قد كان له ما أراد . ماتت الحبيبة الكريمة في أول السنة الثامنة للهجرة ، و قد تساقط من أوراق عمرها المجيد المبارك واحد و ثلاثون ورقة . و أكب الزوج الملتاع على رفيقة الدرب تبكيها عيناه دموعا ، و يبكيها قلبه دما ، و راح يناجي الجسد المسجى في حرقة ، حتى أبكى من حوله . و بكى الحبيب المصطفى ابنته ، و أشرف على غسلها ، و صلوا عليها في المسجد النبوي ، و شيعتها قلوب مثقلة بألم الفراق إلى مرقدها الأخير .
و عاد أبو العاص يجر رجليه جرا إلى منزل كان منذ سويعات أحب بقاع الأرض إلى نفسه ، فغدا الآن أوحشها . و كيف يأنس بدار أقفرت من حبيبة هي أكرم حبيبة ، و عقيلة هي أوفى عقيلة ، و ابنة هي أبر ابنة ، و كريمة هي أشرف كريمة .
و كتب للحبيبين اللقاء الذي لا فراق بعده بعد سنوات أربع ، في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، في السنة الثانية عشرة للهجرة . و تطلع أبو العاص وهو على فراش الموت فرأى وجها كما عهده دوما ، و شعر كما لو أن أناملاها تلامس يده تستعجله المجيء ، فابتسم و لسان حاله يقول : أهلا بالموت .. حبيب جاء بعد غياب .
هذا هــو الحب الصادق..
هذا هــو الوفاء..نعم الوفاء
﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾
أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ..
ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قُرة أعين وأجعلنا للمتقين إماما ..
أما ما كان من أمر الحبيبن ، فقد ظلا على البين مدة ست سنوات كاملة ، احتوى فيها الكريمة بيت النبوة و الأبوة ، و انشغل فيها الكريم بتجارته – أو تشاغل- و ما شارك في معركة ضد المسلمين بعد بدر . حتى إذا كانت السنة السادسة من الهجرة قبيل فتح مكة ، خرج أبو العاص في تجارة لقريش ائتمنوه فيها على مالهم ، لما كان له من باع في حفظ الأمانات . و لما قفل راجعا ، لاقته سرية من سرايا الرسول صلى الله عليه و سلم ، فأصابوا ما معه ، و فر هو بنفسه ، و دخل المدينة ليلا خائفا يترقب .
و مضى الصهر الكريم ، يجوب طرقات المدينة في توجس ، و عيناه تجوسان خلال الديار في لهفة ، حتى وقع بصره على غايته ، و أسرع إلى دارها يسبقه قلبه ليطرق على الباب . و تؤمنه الزوجة الوفية الكريمة ، و تجيره . حتى إذا كانت في صلاة الفجر ، و كبر الحبيب و من بعده المسلمون ، صاحت زينب من بين صفوف النساء : " أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع " .
فلما سلم الحبيب المصطفى من الصلاة ، قال : " أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت ؟ و الذي نفسي محمد بيده ما علمت بشئ من ذلك حتى سمعت ما سمعتم " . ثم أردف " " إنه يجير على المسلمين أدناهم ، و قد أجرنا من أجرت يا زينب " . ثم ذهب الأب الحنون إلى بيت الكريمة الأصيلة ، و قال لها : " أكرمي مثواه يا بنية ، و لا يخلصن لك ، فإنك لا تحلين له " .
ثم قام الأمين عليه أكرم الصلاة و أجل التسليم ، فجمع أفراد السرية ، و قال لهم في رفق القائد الذي ما برح حب أصحابه له يملك عليهم لبهم ، فإنهم ليتنسمون منه إشارة بإصبعه يتبادرونها جميعا أيهم يسبق إلى إرضائه ، قال لهم : " إن هذا الرجل منا حيث علمتم ، و قد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا و تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك ، و إن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم فأنتم أحق به " . و إن كانت لتكفي أن يقول الحبيب المصطفى : إنا لنحب ذلك ، حتى يسارع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كلهم يبتدر أخاه : " بل نرده عليه يا رسول الله حبا و كرامة " ، حتى إن الرجل كان ليجيء بالدلو فيرده إليه .
و لقي بعض المسلمين أبا العاص يجهز نفسه للرحيل ، فقالوا له : " هل لك في أن تسلم و تأخذ الأموال لك ، فإنها أموال مشركين " ، فرد رد رجل ، جدير بأن يكون صهر الحبيب ، و ابن أخت الطاهرة الطيبة ، و زوج العقيلة الكريمة المحتد ، قال :
" بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي "
و يعود أبو العاص إلى مكة . حتى إذا رد الأمانات إلى أهلها ، نادى فيهم : يا معشر قريش ، هل بقي لأحد منكم عندي شئ ؟ قالوا : لا ، فجزاك الله خيرا ، فقد وجدناك وفيا كريما .فصدح فيهم : " فأنا أشهد ألا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و الله ما منعني من الإسلام عنده إلا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم ، و فرغت منها أسلمت " . و مضى ينهب الأرض نهبا ، و يطوي المسافات طيا إلى مليكة قلبه . و أخيرا كان اللقاء المنتظر بعد طول بين ، و ما زاد الفراق شوقيهما إلا حرارة و تأججا ، و ما زاد اللقاء قلبيهما إلا التحاما و تماسكا .
فليهنأ هذا البيت المبارك بأكرم عقيلة و أشرف صهر ما وجد إلى الهناءة سبيلا ، و ليتقلب في أعطاف الرحمة النبوية ما استطاع ، و ليتزود الحبيبان من الأنس ما لاح لهما قريبا من متناولهما ، فإن لوعة الفراق الثاني بعد بهجة اللقاء الثاني لقريبة .
عام واحد ألقى فيه اللقاء بظلال الأنس و البهجة على ذلك الشمل المبارك ، الذي التحم بعد طول تصدع . ثم عاد الفراق يحن لينسج خيوطه في جنبات الروضة الغناء ، و قد كان له ما أراد . ماتت الحبيبة الكريمة في أول السنة الثامنة للهجرة ، و قد تساقط من أوراق عمرها المجيد المبارك واحد و ثلاثون ورقة . و أكب الزوج الملتاع على رفيقة الدرب تبكيها عيناه دموعا ، و يبكيها قلبه دما ، و راح يناجي الجسد المسجى في حرقة ، حتى أبكى من حوله . و بكى الحبيب المصطفى ابنته ، و أشرف على غسلها ، و صلوا عليها في المسجد النبوي ، و شيعتها قلوب مثقلة بألم الفراق إلى مرقدها الأخير .
و عاد أبو العاص يجر رجليه جرا إلى منزل كان منذ سويعات أحب بقاع الأرض إلى نفسه ، فغدا الآن أوحشها . و كيف يأنس بدار أقفرت من حبيبة هي أكرم حبيبة ، و عقيلة هي أوفى عقيلة ، و ابنة هي أبر ابنة ، و كريمة هي أشرف كريمة .
و كتب للحبيبين اللقاء الذي لا فراق بعده بعد سنوات أربع ، في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، في السنة الثانية عشرة للهجرة . و تطلع أبو العاص وهو على فراش الموت فرأى وجها كما عهده دوما ، و شعر كما لو أن أناملاها تلامس يده تستعجله المجيء ، فابتسم و لسان حاله يقول : أهلا بالموت .. حبيب جاء بعد غياب .
هذا هــو الحب الصادق..
هذا هــو الوفاء..نعم الوفاء
﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾
أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ..
ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قُرة أعين وأجعلنا للمتقين إماما ..